خلال أقل من ثلاث سنوات قرأت رواية أولاد حارتنا للكاتب نجيب محفوظ مرتين، وبين القراءتين قرأت -تقريبا- كل ما وقع بين يدي عن الرواية من مقالات أو كتب. قرأت الرواية أولا وعقلي يمتلئ بلعنات صبها عليها كل من سمع باسمها حتى لو لم يقرأها. أما المرة الثانية فجاءت بعد أن قرأت عنها مقالات عدة دافعت عنها؛ فاختلطت في رأسي وجهتا النظر، وانخرطتا في نقاش حاد.
ولمن لم يقرأ الرواية، فهذا ملخص لأحداثها قبل الحديث عن تفسيراتها المختلفة. يبدأ محفوظ الرواية بافتتاحية يقول فيها:
"هذه حكاية حارتنا، أو حكايات حارتنا وهو الأصدق. لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذي عاصرته، ولكني سجلتها جميعا كما يرويها الرواة وما أكثرهم. جميع أبناء حارتنا يروون هذه الحكايات، يرويها كل كما يسمعها في قهوة حيه أو كما نقلت إليه خلال الأجيال، ولا سند لي فيما كتبت إلا هذه المصادر."
بعد هذا ينتقل محفوظ إلى الحديث عن البيت الكبير الذي يقع على ناصية الحارة تجاه الصحراء، بيت الجبلاوي. الجبلاوي أصل كل فرد من أفراد هذه الحارة، فهو جدهم جميعا، وكلهم يتحدرون من صلبه. ذاك الجد الذي أحاط نفسه منذ زمن بعيد بهالة حولته إلى أسطورة اختلطت فيها الحقائق بالأوهام والخيالات؛ إذ اعتزل الحارة ولم يره أحد منذ زمن. أضاف إلى هذه الهالة أن الجد عمر طويلا حتى صار مضرب الأمثال بطول عمره. وينقل الراوي قول رجل قال عن الجبلاوي: "هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي، كان رجلا لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره."
باعتزال الجد نشأ الصراع بين الأحفاد؛ إذ ترك الجد وقفا -الحارة والأملاك التي تقع فيها- وشروطا غامضة تتعلق بتوزيع هذا الوقف بين أبناء الحارة، ويتولى عملية التوزيع تلك ناظر الوقف. وهنا نشأ الصراع. فسد الناظر وطمع لنفسه في ريع الوقف، فعين على رأس كل حي من أحياء الحارة فتوة يسيطر عليهم بالقوة والظلم. تصارع الفتوات فيما بينهم حتى انتصر أحدهم، فنال منصب الفتوة الأكبر. بعد هذا اقتسم الناظر وفتواته ريع الوقف فيما بينهم، وتركوا أهل الحارة يحيون كالمتسولين. وحين كان يفكر أحد أبناء الحارة بالاعتراض، فإن فتوة حيه يتولى عقابه بما يراه مناسبا. هذه هي إشكالية الحارة الأزلية، الظلم.
ولكن قبل كل هذا، كيف نشأت الحارة من الأساس. هنا يروي لنا الراوي قصة أدهم. قبل نشأة الحارة كان كل ما يحيط بالبيت الكبير صحراء. عاش الجبلاوي في البيت الكبير وتزوج وأنجب إدريس وعباس ورضوان وجليل وأدهم. الأربعة الأولون أشقاء، أما أدهم فهو أخوهم من الأب فقط؛ إذ أنه ابن جارية سوداء من جواري البيت. في أحد الأيام يجمع الأب الإخوة ليعلمهم أنه قرر ترك مهمة إدارة الوقف لغيره. بدون تفكير، اتجهت كل الأذهان إلى إدريس الأخ الأكبر. ولكن خلافا لكل التوقعات، يقرر الأب توكيل أدهم بهذه المهمة، وهو ما يثير غضب إدريس واندهاش الإخوة الباقين بما فيهم أدهم نفسه. عارض إدريس أباه، وشعر رضوان وجليل وعباس بالغضب له، إلا أنهم آثروا الصمت اتقاء لغضب الأب، وهو ما زاد حنق إدريس. يحتدم النقاش حتى يقرر الجبلاوي طرد إدريس من منزله إلى الخلاء.
ينتقل إدريس إلى الخلاء ويحيا هناك، ويتولى أدهم إدارة الوقف، وتتوالى الأيام، ويتزوج أدهم من أميمة إحدى جواري المنزل. في أحد الأيام، يتسلل إدريس بين مستأجري الوقف، ويصل لأدهم. يفاجأ أدهم بوجوده، ويطلب منه الرحيل، إلا أنه يستأذنه في قليل من وقته ليتحدث معه. يأذن له أدهم، فيخبره إدريس بأمر حُجَّة الوقف الذي يدون فيه الجبلاوي كل شيء عن آل البيت، ويطلب من أدهم أن يتسلل إلى مخدع الأب؛ كي يطلع على الحجة ليعرف إن كان الأب قد حرمه نصيبه أم لا. يتخوف أدهم من هذه الفعلة ويقوم إدريس به محاولا إقناعه، إلا أنه يفشل. لكن قليل الماء يقلقل البناء غير ثابت الأركان، وأدهم منذ طرد إدريس يشعر أنه -بشكل غير مباشر- السبب فيما حدث. لهذا يضطرب إدريس، ويوسوس له عقله بالاطلاع على الحجة؛ ليعرف شأن إدريس وشأنه أيضا. وكمحاولة يائسة منه لوأد هذه الوساوس، يقص ما حدث على زوجته، ملتمسا عندها تأييد رفضه، إلا أنها -على العكس مما كان ينتظر- تشجعه على الاطلاع على الحجة للاطمئنان على مصير أخيه ومصيرهما.
يقرر أدهم الإقدام على هذه الخطوة، وداخله رعب مميت. ينتظر الوقت المناسب فيتسلل إلى مخدع أبيه، ويحاول الاطلاع على الحجة، إلا أن الأب يمسك به، ويقرر طرده من البيت بإدريس إلى الخلاء. يغادر أدهم البيت الكبير، فيعمل مع زوجته على بناء كوخ بجوار جدار البيت، أملا في العودة إلى البيت مرة أخرى، ويجاوره في كوخ آخر إدريس، الذي اتضح أنه دبر هذه الخطة انتقاما من أدهم.
تمر سنوات وأدهم وإدريس في الخلاء، وينجب كل منهما. ينجب إدريس هندا، وينجب أدهم قدري وهمام. يكبر الأبناء، ويعمل ابنا أدهم في رعي الغنم، وتتعلق هند بابن عمها قدري، ويلتقيان خلسة دون علم أهليهما. بعد فترة يفاجأ الجميع بخادم الجبلاوي يزور كوخ أدهم طالبا همام للقاء جده، الذي يعلم حفيده بأنه راض عنه، وأنه يدعوه للعيش في البيت الكبير. يصارح همام جده برغبته في أن يعود مع أهله إلا أن الجد يرفض. يصرف الجبلاوي همام ليخبر أهله ثم ينتقل للحياة خلف أسوار البيت. حين يعود همام يعلم والديه وأخاه برغبة جده، فيطلب منه أبوه تنفيذ رغبة الجبلاوي، في حين يثور قدري ويغضب.
في اليوم التالي، بينما همام وقدري يرعيان الغنم، يقع شجار بينهما يقتل قدري أخاه على أثره، ويدفنه في المرعى. حين يعود إلى البيت يحاول إخفاء الأمر عن والديه، إلا أنه سرعان ما ينكشف، فيذهب مع أبيه لإعادة جثة همام. يهرب قدري من المنزل، ولا يعثر والداه له على أثر.
في مرضه الأخير، يتحقق جزء من حلم أدهم؛ إذ يزوره أبوه في كوخه، ويعلن له عفوه، ويعلمه أن الوقف سيكون ملكا لأبنائه من بعده. يموت أدهم وأميمة وإدريس، ويعود قدري ومعه هند -التي هربت لافتضاح علاقتها بقدري- ومعهما أطفال، فيختلطان بغيرهم ويتناسلون، ومن هنا تنشأ الحارة.
وتبدأ العجلة في الدوران، فيتولى ناظر ويطمع، ويعين فتوات له، ويحيا أهل الحارة في بؤس وضنك. ومن بيت ناظر الوقف يخرج جبل الذي سيخلص الحارة من هذا الظلم. جبل فتى من حي آل حمدان -أحد أحياء الحارة- إلا أن أباه وأمه ماتا في صغره؛ فعثرت عليه زوجة ناظر الوقف، وتولت تربيته.
حين ينفد صبر آل حمدان ويضيقون بحياتهم، ينطلقون نحو بيت الناظر متشكين، طامعين في عدله، إلا أن الناظر يغضب ويثور ويطردهم.
يجتمع الناظر بفتواته، ويأمرهم بمعاقبة آل حمدان على جرأتهم. عندما يشتد العقاب بآله، يغضب جبل، ويغادر بيت الناظر عائدا إلى حيه الأصلي. وبسبب قتله خطأ أحد رجال الناظر يضطر جبل إلى مغادرة الحارة كلها إلى سوق المقطم. وهناك يلتقي المعلم البلقيطي الذي يعلمه فنون الحواة ومنها التعامل مع الثعابين. يتزوج جبل من ابنة البلقيطي ثم يقرر العودة إلى الحارة مرة أخرى حين يلتقي جده الجبلاوي في الخلاء، الذي يطالبه أن يستعيد حق آله المسلوب، وأن يصون كرامتهم، متخذا من القوة دربا. يحقق جبل مراد جده، ويقتل الفتوات -بمعاونة آل حمدان- ويستعيد لهم نصيبهم في الوقف، ويقر بينهم العدل، ويبقى الوضع هكذا حتى يموت جبل.
بعد موت جبل بفترة تعود العجلة إلى نقطة البداية، فيأتي وقت رفاعة. رفاعة شاب طيب من آل حمدان، يعمل أبوه نجارا، إلا أنه ليس مهتما باتباع درب أبيه؛ إذ يتعلم كيفية تخليص الناس من العفاريت المتلبسة بهم، ويتخذ من ذلك هدفا لحياته. بسبب مهنته التي كانت تعد في الحارة مهنة نساء، يصبح رفاعة محل سخرية الناس، ولكن الأمر يكتسب عنده بعدا آخر حين يخاطبه جده الجبلاوي -دون أن يراه- ويطلب منه رفع الظلم عن الحارة. يتخذ رفاعة من بعض الفقراء أصدقاء له بعد تخليصهم من عفاريتهم، ويعلمهم أسرار مهنته، ويدبرون معا خطة لتخليص الحارة كلها من العفاريت حتى يغمرها العدل. ولكن قبل أن يستطيع رفاعة تنفيذ وصية جده، تخونه زوجته، وتشي بأمره إلى الناظر، فيرسل فتواته لقتله، وهو جالس مع أتباعه. بعد موته يعود أتباعه إلى الحارة، وينتقمون من الناظر وأعوانه، وينشرون العدل بين أهل الحارة، محققين بذلك ما أراده الجبلاوي.
ولأن آفة الحارة النسيان، فإن الأمور عادت سيرتها الأولى، وهنا يحين دور قاسم ليكتب اسمه في أشعار الحارة. قاسم شاب من أفقر أحياء الحارة، والذي يسمى بحي الجرابيع، مات والداه، فتبناه عمه. حين يكبر قاسم يعمل بالتجارة مع عمه، ثم ينتقل إلى رعي الغنم لأغنياء الحارة، ومنهم السيدة قمر، السيدة الغنية الوحيدة في حي الجرابيع. لأمانته تعرض عليه قمر -من خلال خادمتها- الزواج. يتزوجان، ويتولى قاسم إدارة أعمالها.
في أحد الأيام، وبينما قاسم في الخلاء وحيدا، يفاجأ بزائر يعرف نفسه على أنه قنديل خادم الجبلاوي، وأخبره أن الجبلاوي يرغب في أن يكون جميع أهل الحارة على قدم المساواة -لأنهم جميعا أحفاده- وأن ريع الوقف يجب أن يوزع عليهم جميعا بالتساوي، كما يجب القضاء على الفتونة.
يبدأ قاسم في حشد الأتباع من حوله حتى يكتشف أمرهم، فيأمرهم قاسم بمغادرة الحارة إلى الخلاء، فيحتمون بجبل المقطم، وينشئون حارة أخرى يعيشون فيها، وتقع بينهم وبين الفتوات معارك عنيفة، يكون النصر فيها نصيبهم، ويعود قاسم إلى الحارة، ويوزع ريع الوقف على الجميع بالتساوي، كما أراد جده.
ويبدو أن تلك الحارة لا تعتبر؛ فما إن مات قاسم، ومرت على عهده سنوات، حتى ارتدت الحارة إلى الدرك الذي كانت فيه. وفي أحد الأيام يأتي الحارة فتى غريب على أهلها، لكنهم سرعان ما يعرفون أنه عرفة ابن إحدى أهالي الحارة، التي كانت قد غادرتها منذ زمن بعيد، لكنهم لم يعرفوا له أبا. عاد ومعه أخوه من أمه حنش، وسكنا في بدروم قديم بحي رفاعة، وهناك يرى عرفة عواطف بنت عم شكرون للمرة الأولى، فيقع في حبها، منافسا بذلك المعلم السنطوري فتوة حي آل قاسم. في النهاية يتزوج عرفة من عواطف بتأييد من المعلم عجاج فتوة الرفاعية.
عرفة -الذي يعمل ساحرا- يضيق بحكايات أهالي الحارة عن جبل ورفاعة وقاسم؛ إذ أن أهالي الحارة يكتفون بالحكي عنهم دون اتباع سيرتهم، لهذا يقرر عرفة أن يقتحم البيت الكبير سعيا وراء الكتاب الذي يحمل شروط الوقف العشرة، حتى يتمكن من تخليص الحارة من الظلم الذي يتغمدها.
يقتحم عرفة البيت، وحين يصل إلى الخلوة حاوية الكتاب يكتشفه خادم الجبلاوي، فيقتله عرفة ويهرب خارج البيت. وفي الصباح يكتشف أمر الخادم؛ فيحزن الجبلاوي عليه حزنا شديدا يفضي به إلى الموت. هنا تميد الأرض بعرفة ذنبا، ويقرر أن يعمل على التخلص من الفتوات، والبحث عن وسيلة لإعادة الجبلاوي للحياة، كتكفير عن ذنبه.
ينجح عرفة في قتل سعد الله فتوة الحارة، ولكنه لا يلبث طويلا قبل أن يفتضح أمره لدى الناظر، الذي يستدعيه ويهدده بكشف حقيقة فعلته -قتل الجبلاوي وسعد الله- لكل أهالي الحارة، ما لم يتعاون عرفة معه، ويزوده بالسلاح السري الذي يستطيع به القضاء على الفتوات، والسيطرة على ريع الوقف كله لنفسه.
يتعاون معه عرفة، فينجحون في القضاء على الفتوات الثلاثة الباقين، وتظل شراكتهما قائمة إلى أن يفيق عرفة من غفلته، فيقرر الهرب إلى خارج الحارة حتى يستعد جيدا، ثم يعود للقضاء على الناظر. ولكن قبل أن يستطيع الهرب يكتشف الناظر فعلته فيقتله، ويهرب حنش، ولكنه يعود مرة أخرى للحصول على كراسة عرفة التي دون فيها كل أسرار السحر التي يعرفها؛ كي يتمكن من تعلمه وإتقانه ثم يعود لتخليص الحارة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبما أننا انتهينا من تقديم القصة لمن لم يقرأها، نستطيع الآن أن نمضي في تفسيرات الرواية المتعددة. ولأني دائما أحاول -قدر إمكاني- أن أتحاشى ظن سوء النية -رغم أني لا أنكر أني أقع أحيانا في هذا- ولكن يبقى أني أحاول. أقول، لأني أحاول تجنب ظن سوء النية فسأتحاشى تفسير الرواية على النحو الذي قال بتكفيرها وكاتبها لأنها تمجد العلم على حساب الدين، وأنها تؤيد فكرة موت الإله، مع الاعتراف بأن القراءة العابرة لهذه الرواية يمكن أن تعضد هذا الفهم بأدلة قوية.
لنبدأ أولا مع التفسير الذي لا يقنعني بشكل كاف. قال البعض أن الرواية كانت ترمز إلى سخط محفوظ على ثورة يوليو ورجالها؛ إذ أنه كان يرى أن الثورة لم تحقق ما أتت من أجله، ووعدت الناس به، وأنها لم تختلف كثيرا عما سبقها من العصور. ولا يعود رفضي لهذا التفسير لأنه لا يمكن أن يتحقق في الرواية ويسقط على رموزها، وإنما وجه رفضي أن الرواية أكثر عمقا من هذا التفسير، وأوسع في النظرة. ربما كانت مساوئ الثورة في رأس محفوظ حين انبرى لكتابة الرواية ولكن ليس من أجلها كتبت أولاد حارتنا.
رواية أولاد حارتنا هي رواية عن الإنسانية جمعاء، ولكي نخوض غمار التفسير الثاني للرواية؛ علينا أن نعود إلى الرموز التي كانت دلالاتها -بشكل عام- واضحة للجميع. سيكون التركيز هنا على الرمزين الأهم في الرواية. الجبلاوي الذي قال القراء أنه يرمز إلى الإله وعرفة الذي يرمز إلى العلم. التفسير الثاني هو تفسير محفوظ نفسه للرواية. عن رموز روايته يقول محفوظ أن الجبلاوي يرمز إلى الدين بشكل عام، وأن عرفة يرمز إلى العلم، وموت الجبلاوي حزنا على خادمه الذي قتله عرفة يرمز إلى تراجع دور الدين على يد العلم، وأن الرواية كلها ترمز إلى أن الحياة لا تستقيم بدون الدين والعلم سوية. وأترك التعليق على هذا التفسير لما بعد عرض التفسير الثالث.
التفسير الثالث قرأته في سلسلة مقالات عن محفوظ على موقع بص وطل لكاتب لا تسعفني الذاكرة باسمه حاليا. يقول الكاتب أن محفوظ كان يعاني في هذا الوقت صراعا حادا بين ولائه للعلم والتجربة بحكم الزمن الذي عاش فيه، والدين والتقاليد الدينية التي تربى عليها طوال حياته، وأنه كان يزايله شك حيال الإله؛ فكتب هذه الرواية تعبيرا عن شكه هذا. شك جابهه الكثير والكثير من مفكرينا نذكر منهم على سبيل المثال الدكتور عبد الوهاب المسيري والإمام الغزالي. مشكلة أولاد حارتنا -كما يرى الكاتب- أنها تعرضت لرموز دينية صريحة، ولم تمنح المتلقين مستويات عدة لتفسير النص؛ ولهذا كان الهجوم عليها شديدا. ويدلل الكاتب على كلامه بأن محفوظ عبر عن شكه هذا في روايات تالية، إلا أنه لم يستخدم رموزا دينية صريحة؛ فكانت تلك الروايات أخف وطأة على المتلقين من أولاد حارتنا. وفي نهاية مقاله يؤكد الكاتب أن محفوظ وصل في ختام مسيرته إلى اليقين الذي ظل فترة طويلة من عمره يبحث عنه، كما وصل إليه المسيري والغزالي.
بإعادة قراءة الرواية استطعت تكوين تفسيري الشخصي، الذي يبتعد عن التكفير؛ إيمانا بأن الكفر والإيمان لا يعلمه إلا الله. تفسيري الشخصي يجمع بين التفسيرين الثاني والثالث، بناء على ما قرأت؛ ولهذا ستكون كل كلمة مدعمة من النص بما يؤكدها. قبل الحديث عن ذلك التفسير، يجب أن أنبه إلى أن الكاتب -القاص أو الروائي أو الشاعر على وجه الخصوص- هو مرآة تعكس أحوال شخصه، وتبرز قضايا شعبه، وتبين ظروف عصره، وعلى هذه الحقيقة ينبني تفسيري. فما أراده محفوظ بأولاد حارتنا هو أن يعبر أولا عن شك يزايله هو شخصيا حيال الإله والدين نشأ من دراسته للفلسفة وإيمانه بالعلم، وأن يبرز ثانيا تراجع دور الدين في العالم أمام سفينة العلم الكاسحة التي بهرت أضواؤها أعين الناس واجتذبتهم. هذا تفسيري إجمالا وتفصيله كما يلي.
علينا أولا أن نفهم حال الحارة زمن عرفة، فقد مضى على عهد قاسم زمن، وعادت الحارة إلى ما كانت عليه قبل مجيئه، والناس صامتون لا يتحركون، وكل ما يفعلونه هو التغني بأيام جبل ورفاعة وقاسم، وتمني عودتها، منتظرين من يقوم عنهم بهذا. نرى هذا في وصف محفوظ للحارة في هذا الوقت؛ حيث قال عنها: "لم يعد جبل ورفاعة وقاسم إلا أسماء، وأغاني ينشدها شعراء المقاهي المسطولون." كما قال أيضا عن أهل الحارة أنهم يجترون الإصغاء إلى هاتف في أعماقهم يهمس لهم أن "ليس من المستحيل أن يقع في الغد ما وقع بالأمس، فتتحقق مرة أخرى أحلام الرباب وتختفي من دنيانا الظلمات."
فأهل الحارة قابعون في أماكنهم ينتظرون أن تتغير الأوضاع إلى الأفضل وحدها، وأن يزول الظلم عن حارتهم دون دفع. وفي وسط هذا كله جاء عرفة.
ولكي نفهم شخصية محفوظ علينا أن نفهم شخصية عرفة. فما أراه أن مشاعر عرفة إجمالا تعبر عن مشاعر محفوظ الشخصية. هنا يجب علينا أن نعود إلى أقوال عرفة كي نستطيع فهمه.
يقول عرفة عن الحارة: "في كل شبر من هذه الحارة تجد دليلا على وجود الفتوات، ولكنك لن تجد دليلا واحدا على وجود أناس مثل جبل أو رفاعة أو قاسم." ويقول عن أهالي الحارة: "كل واحد منهم يفاخر برجله بغباء وعمى، يفاخرون برجال لم يبق منهم إلا أسماؤهم، ولا يحاولون قط أن يجاوزوا الفخر الكاذب بخطوة واحدة." وفي نفسه ينبض تساؤل: "متى تكف حارتنا عن حكي الحكايات."
وحين يتحدث عرفة عن السحر فإنه يقول: "السحر شيء عجيب حقا، لا حد لقوته، ولا يدري أحد أين يقف."
ويدور بين عرفة وعواطف هذا الحوار حول الفتوات، فيقول عرفة:
§ أحسن قاسم من قبل يوم قضى عليهم، لكنهم يعودون مثل بعض الدمامل الغامضة.
§ لذلك يتحسر أبي على أيام قاسم.
§ ويوجد غيره من يتحسرون على أيام جبل ورفاعة، لكن الماضي لا يعود.
§ تقول ذلك لأنك لم تشهد قاسم مثل أبي.
§ وهل شهدته أنت؟
§ أبي قال لي.
§ وأمي قالت لي، ولكن ما جدوى ذلك؟ إنه لا يخلصنا من الفتوات...
وحين يتناقشان حول أمر القضاء على الفتونة، تقول عواطف لعرفة:
§ يقولون إنه في وصية جدنا الواقف.
§ أين جدنا؟
§ في البيت الكبير.
§ نعم، أبوك يحدث عن قاسم، وقاسم حدث عن جدنا، هكذا نسمعن ولكنا لا نرى إلا قدري وسعد الله وعجاج والسنطوري ويوسف، نحن في حاجة إلى قوة لتخلصنا من العذاب، فماذا تجدي الذكريات
وتدور مناقشة بينهما حول الجبلاوي، فيقول عرفة:
§ كل مغلوب على أمره يصيح كما صاح المرحوم أبوك: 'يا جبلاوي'! ولكن هل سمعت من قبل عن أحفاد مثلنا لا يرون جدهم وهم يعيشون حول بيته المغلق؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنا؟
§ إنه الكبر!
§ فقال بارتياب: لم أسمع عن معمر عاش طول هذا العمر.
§ يقال إنه يوجد رجل في سوق المقطم جاوز المائة والخمسين من العمر، ربك قادر على كل شيء.
§ كذلك السحر فهو قادر على كل شيء!
وفي حديث عن السحر تقول عواطف لعرفة:
§ في زمن قصير حقق قاسم العدالة بغير سحرك
§ وسرعان ما ولت، أما السحر فأثره لا يزول
ويقول عرفة مبررا قراره بالدخول إلى البيت الكبير: "ليس غريبا على مجهول الأب أن يتطلع بكل قوته إلى جده، وحجرتي الخلفية علمتني ألا أومن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجربته بيدي، فلا محيد عن الوصول إلى داخل البيت الكبير، وقد أجد القوة التي أنشدها وقد لا أجد شيئا على الإطلاق، ولكني سأبلغ برا هو على أي حال خير من الحيرة التي أكابدها."
وحين يدخل إلى البيت، يرى سرير الجبلاوي، فيفكر "كم يود أن يلقي نظرة عليه ولو من بعيد."
وبعد عودته من تلك الرحلة قاتلا يقول عرفة لحنش وعواطف عن رحلته: "علمتني أنه لا ينبغي أن نعتمد على شيء سوى السحر الذي بين أيدينا! ألا ترى أني غامرت برحلة جنونية وراء فكرة ربما كانت أبعد ما يكون عن ظني." ويقول أيضا: "أنا عندي ما ليس عند أحد، ولا الجبلاوي نفسه، عندي السحر، وهو يستطيع أن يحقق لحارتنا ما عجز عنه جبل ورفاعة وقاسم مجتمعين."
وينقل محفوظ مشاعر عرفة حين اكتشف موت الجبلاوي بسبب مقتل خادمه -على يد عرفة كما ذكرنا- فيقول:
"بدا عرفة حزينا ولكن ما كان يدور بنفسه لم يخطر لأحد على بال. ذلك الذي اقتحم البيت غير مبال بجلاله. الذي لم يتأكد من وجود جده إلا عند موته! الذي شذ عن الجميع ولوث يديه إلى الأبد. وتساءل كيف يمكن التكفير عن هذه الجريمة؟ إن مآثر جبل ورفاعة وقاسم مجتمعة لا تكفي. القضاء على الناظر والفتوات وإنقاذ الحارة من شرورهم لا يكفي. تعريض النفس لكل مهلكة لا يكفي. تعليم كل فرد السحر وفنونه وفوائده لا يكفي. شيء واحد يكفي هو أن يبلغ من السحر الدرجة التي تمكنه من إعادة الحياة إلى الجبلاوي! الجبلاوي الذي قتله أسهل من رؤيته. فلتهبه الأيام القوة حتى يضمد الجرح النازف."
وفي حوار بين حنش وعرفة حول الجبلاوي، يقول حنش:
§ لم يكن من عادتك أن تتحدث عن جدنا باحترام
§ كان ذلك في الزمان الاول وأنا كثير الارتياب، أما وقد مات فحق للميت الاحترام
§ الله يرحمه
§ وهيهات أن أنسى أنني المتسبب في موته، لذلك فعلي أن أعيده إلى الحياة إذا استطعت
وقبل أن يُقتل يفكر عرفة: "...ليس وراء الظلام إلا الموت وخوفا من هذا الموت انطوى (عرفة) تحت جناح الناظر فخسر كل شيء وجاء الموت. الموت الذي يقتل الحياة بالخوف حتى قبل أن يجيء. لو رد إلى الحياة لصاح بكل رجل.. لا تخف.. الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت."
وهكذا نستطيع أن نفهم أن عرفة ساءه أن يرى حارته على الحال التي وصلت إليها، وسئم من أهله انتظار أن يرسل لهم الجبلاوي من يخلصهم من الظلم، فأصابه الشك في وجود الجبلاوي حقيقة، أو على الأقل أصابه الشك في الهالة الأسطورية التي يحيطه بها أهل الحارة.
هنا قرر عرفة أن يقتحم البيت الكبير ليكتشف بنفسه الحقيقة، وليستطيع التصديق؛ إذ أنه لم يعتد تصديق ما لا تراه عيناه وتلمسه يداه. وكل هذا يرمز إلى أن العلم لم يأخذ بأي مسلمات، وأخضع كل شيء للفحص والدراسة والتجريب.
وحين دخل عرفة إلى البيت، وجال فيه، وقتل الخادم، مات الجبلاوي. وهو ما يرمز -في رأيي- إلى موت معنوي؛ فكأن المراد أن العلم حين نشأ أسقط الرهبة عن كل الأفكار المقدسة، واقتحمها ليحللها ويدرسها، ويبقي على الحقيقي منها، ويلغي ما هو أسطوري، ومن ضمن هذه الأفكار فكرة الإله، وبهذا مات الإله في نفوس البشر.
ولأن عقل البشر قاصر، فإن عرفة -حين تسلل إلى البيت- لم يستطع رؤية الجبلاوي، أو الاطلاع على أسرار كتابه، وهو ما يرمز إلى عجز البشر أمام فهم حقيقة الله، وفهم طريقة تسيير هذا الكون بالكامل. وهذا ما أشير إليه بقول عرفة عن رحلته: "علمتني أنه لا ينبغي أن نعتمد على شيء سوى السحر الذي بين أيدينا! ألا ترى أني غامرت برحلة جنونية وراء فكرة ربما كانت أبعد ما يكون عن ظني." فما يعلمه البشر لا يعدل مثقال ذرة فيما لا يعلمونه، وهو ما يشار إليه بقول عرفة: "السحر لا نهاية له، ليس بين يدي منه اليوم إلا بعض الأدوية ومشروع زجاجة للدفاع أو للهجوم، أما ما يمكن أن يوجد فلا يحيط به خيال." ففهم كل شيء عن الكون وما فيه أمر مستحيل على عقول البشر، وحسبهم ما يعرفونه من علم، فلا يجب عليهم الانتظار لفهم كل شيء عن الوقف والواقف، وانتظار أن يتحرك الواقف بنفسه أو يرسل إليهم أحدا ليتخلص لهم من الظلم، بل عليهم أن يتحركوا بأنفسهم للقضاء على الشرور في الحارة.
وحين يعلم عرفة بموت الجبلاوي بسبب اقتحامه منزله (إسقاط العلم لقدسية مفهوم الإله بإخضاعه للدراسة وهو ما ترتب عليه ضعف المفهوم في نفوس البعض وموته في نفوس البعض الآخر)، أقول حين يعلم عرفة بذلك فإنه يرتعب؛ إذ أنه لم يعمد يوما إلى فعل هذا، فكل ما أراده هو التأكد مما يرويه الناس عن الجبلاوي. وبسبب شعوره بالذنب فإن عرفة آل على نفسه إعادة الجبلاوي إلى الحياة إلا أنه يموت قبل تحقيق هذا.
من كل هذا ندرك أن محفوظ كان يعيش في شك، لم يصل شكه هذا إلى مرحلة الإنكار، ولكن عقله لم يستطع استيعاب أشياء كثيرة، لكنه لم يكن يرغب في إلغاء فكرة الدين، والتعبير عن موت الإله كما فهم البعض، ولكنه كان يرى أن الحياة لن تستقيم بالوقوف منتظرين معجزات السماء التي تحل علينا، وإنما على كل منا السعي من أجل قهر الظلم والطغيان، وتحقيق الخير لكل البشر تنفيذا لوصايا الخالق (شروط الوقف العشرة في الرواية)، وأن نستعين على هذا بما تستطيع عقولنا البشرية إدراكه وتعلمه (السحر في الرواية). بهذا تتحقق شروط الواقف، ويبقى حيا بحياة شروطه. وبهذا يمكن فهم ما ذهب إليه محفوظ حين قال أنه ما قصد في روايته إلا أن الحياة لا يمكن أن تستقيم بدون الدين والعلم سوية، ولا يمكن الاكتفاء بأحدهما دون الآخر.
من الأمور التي تؤكد على أن محفوظ لم يكن يرى في العلم بديلا للدين أن الجبلاوي أرسل جبل ورفاعة وقاسما برسالة القضاء على الفتونة فنجح ثلاثتهم في هذا. صحيح أنه بعد موتهم حاد أهل الحارة عن دربهم وعادوا لما كانوا فيه، ولم يبق ذكر للثلاثة إلا في الأشعار، إلا أن الثلاثة نجحوا فيما سعوا إليه، في حين أن عرفة لم يستطع تحقيق هذا بعد موت الجبلاوي. ويؤكد هذا أيضا أن كلا من جبل ورفاعة وقاسم لم يتنازل أحدهم عن رسالته أمام الضغوط العديدة التي تعرض لها، في حين أن عرفة حاد عن حلمه لفترة قبل أن يفيق، هذا لأنه لم يكن مرسلا من قبل الجبلاوي كما أن الجبلاوي كان قد مات، فالعلم لم يكن مدفوعا بقوة الدين؛ لهذا لم يستطع تحقيق الرخاء على الأرض. مضمون هذا أن العلم منتج بشري لا يمكن له تحقيق الرخاء وحده بدون تأييد إلهي.
الخلاصة:
في رأيي أن محفوظ كتب هذه الرواية فعلا وفي داخله تضطرم نيران الصراع بين الدين والعلم، فبالرغم من أنه كان مؤمنا بالعلم والفلسفة، إلا أنه لم يستطع التخلي عن مبادئه الدينية التي حملها داخل نفسه؛ فبث عامدا أو غير عامد بعض الإشارات إلى أن العلم برغم إبهاره لن يستطيع أن يحل محل الدين، ولن يتمكن من حل مشكلات الإنسان وحده، حتى لو ظن الناس هذا لفترة.
على الهامش:
رواية أولاد حارتنا رواية اختلفت فيها الآراء، واحتملت عدة تفسيرات برأ الرواية منها بعض وأدانها بعض آخر. وبإغفال ما يوافق رأي كل منا من هذه التفسيرات، يبقى أن ما تضادَّت فيه الأقوال وتنافرت، تبددت مساعي القطع فيه برأي وتعثرت.