١٤ يناير ٢٠١٠

السوسنة المفقودة



عنها كثيرا نصوصنا المقدسة تحدثت: "تلكم سوسنة تبتغى. في أعلى جبل وفي بطن أرض. في عرض بحر وقلب صحراء. تبصر ألقا، وتشم أجمل عطور الدنيا. محض قطرة من معصور أوراقها تحيل الكون غير الكون."

هي حلمنا الأول والأخير؛ فما سعى ساع، وما فكر مفكر، ولا جرب عالم، إلا وكانت سوسنتنا المفقودة هدفه. كهنة قدموا الصفحات قرابين على مذابح المعابد التي شيدوها لتلك السوسنة. أعمار انقضت في المحاريب بحثا عن دليل واحد يؤدي إلى موقعها، ولكن للأسف كل ذلك ضاع هباء؛ فلم ينجح أي شخص في الاستدلال على طريق إليها. ولأن نصوصنا لم تبن، راح كل منا يضفي على النص رؤيته الخاصة، ويتقدم بتفسيراته، إلا أن أحدا لم يقدم الحقيقة.

تتساءلون من أنا؟؟ كاهن من كهنة السوسنة. مذ نشأت تفتحت عيوني على سابقي في البحث... خبرت بمحاولاتهم، ومحصتها. طالعت كل ما يتعلق بذاك الحلم الذي عذبهم، كما عذب أهالي البلاد. ولأني مثل أهل البلدة العاديين؛ فقد عشت الحلم، ولكن لأني أختلف عنهم؛ فقد قررت أن أفني حياتي ملاحقا إياه، ملحقا اسمي بقائمة الكهان.

قطعت الفيافي وجبت البحور. قمم الجبال وطأت، وبطون الأراضين شققت. انطلقت في أولى رحلاتي حين بلغت العشرين، فطفت بقرى الجوار جامعا كل ما تصل إليه يدي، ويطرق سمعي مما له علاقة بالسوسنة، إلا أن تلك الرحلة -خلافا لما ظننت- لم تضرب بمعولها في صخرة حيرتي، وإنما أهالت عليها ما زادها قوة وصلابة؛ فقد وضعت أمامي عشرات -بل مئات- التأويلات، التي يبلغ بعضها حد مناقضة البعض الآخر.

في الرحلة التالية انطلقت وراء الحلم إلى قرى أبعد، إلا أني لم أصادف فيها الحظ أيضا، ولم تقدم لي تلك الرحلة إلا مزيدا من الحيرة. وها أنا اليوم أقف على بعد ستين سنة من رحلتي الأولى، يحيط بي من كل ناحية، ويملأ جنبات المنزل ملايين الوثائق والمخطوطات التي تدعي كل منها بأن لديها الحقيقة، رغم أنها جميعا لم تقدم إلا تأويلات ثبت لي بالبحث خطأها.

والآن، وأنا على فراش الموت، بعد رحلة بحث طويلة لم تؤد إلى إيجاد السوسنة، أقدم إليكم وثيقتي حاملة تفسيري للنص. ربما سيجدها باحث بعدي ليكتشف صحة ما ذهبت إليه، وربما تضاف إلى ملايين الوثائق التي جمعتها، والتي لم يصل بنا أي منها إلى الحلم. علم هذا عند البارئ.

"هي سوسنات، وليست واحدة"

© مش عارف - Template by Blogger Sablonlari